الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(الثَّانِي) مِمَّا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ , وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ , وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ , وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ , وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ , وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ , وَيَحْفَظَ خُلَّتَهُ , وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ , وَيُجِيبَ دَعَوْتَهُ , وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ , وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ , وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ , وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ , وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ , وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ , وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ , وَيُوَالِيَهُ وَلَا يُعَادِيَهُ , وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ , وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ , وَلَا يُسْلِمَهُ , وَلَا يَخْذُلَهُ , وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ . ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ , وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ نُصْحُ الذِّمِّيِّ , نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ الْكَفُّ عَنْ مساوئ النَّاسِ وَعُيُوبِهِمْ , كَذَا عِبَارَاتُهُمْ . قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَالْأَوْلَى يَجِبُ وَهُوَ كَمَا قَالَ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الَّتِي يُسِرُّونَهَا , وَعَمَّا يَبْدُو مِنْهُمْ غَفْلَةٌ أَوْ غَلَبَةٌ مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ , أَوْ صَوْتِ رِيحٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَوْلَى لِلسَّامِعِ أَنْ يُظْهِرَ طَرَشًا أَوْ غَفْلَةً أَوْ نَوْمًا أَوْ يَتَوَضَّأَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَتْرًا لِذَلِكَ . انْتَهَى . قَالَ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى رِيبَةٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتُرَهَا وَيَعِظَهُ مَعَ ذَلِكَ وَيُخَوِّفَهُ بِاَللَّهِ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنِّي لَأَعْفُو عَنْ ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ وَفِي دُونِهَا قَطْعُ الْحَبِيبِ الْمُوَاصِلِ وَأُعْرِضُ عَنْ ذِي اللُّبِّ حَتَّى كَأَنَّنِي جَهِلْت الَّذِي يَأْتِي وَلَسْت بِجَاهِلِ وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَغُضَّ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَائِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ هَذَا كُلُّهُ فِي هِجْرَانِ أَرْبَابِ الْمَعَاصِي . وَأَمَّا هِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي نَظْمِهِ فَقَالَ:
وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لِأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ مُفَسِّقٍ احْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ (وَهِجْرَانُ مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِمْ (يَدْعُو) النَّاسَ جَهْرَةً أَوْ خُفْيَةً (لِ) إجَابَةِ (أَمْرٍ) مِنْ الدِّينِ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ (مُضِلٍّ) تَائِهٌ حَائِدٌ عَنْ النَّهْجِ الْقَوِيمِ , وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ , وَالرَّسُولُ الْعَظِيمُ , عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ , أَوْ الصَّحَابَةُ أَهْلُ التَّقْوَى وَالْإِصَابَةِ , الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ عِصَابَةٍ , أَوْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , أَوْ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الَّذِي نَطَقَ بِفَضْلِهِ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ , فِي قَوْلِهِ " خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " فَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْوِرَاثَةِ , لَا مَا نَهَجَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ وَأَضْرَابُهُمْ مِنْ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَالطَّوَائِفِ الْمَائِلَةِ الزَّالَّةِ , فَهَؤُلَاءِ حَتْمٌ هِجْرَانُهُمْ , وَلَا تَرْعَ شَأْنَهُمْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْفُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ (أَوْ) يَدْعُو لِأَمْرٍ (مُفَسِّقٍ) بِأَنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ مُفَسِّقَةً لَا مُكَفِّرَةً . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً فَبِالْأَوْلَى وَقَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ لِأَمْرٍ مُضِلٍّ , لِأَنَّ الضَّلَالَ يَشْمَلُ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ , وَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ (الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ عَدَمَ وُجُوبِ هَجْرِهِ كَمَا لَهُ كَانَ فَاسِقًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ هَجْرُهُ بَلْ يُسَنُّ , لَكِنْ لَمَّا كَانَ دَاعِيَةً إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ (احْتِمْهُ) أَيْ الْهِجْرَانَ بِغَيْرِ (تَرَدُّدٍ) مِنْك وَلَا شَكٍّ لِارْتِكَابِهِ الْبِدَعَ , وَخِلَالُ السُّوءِ الَّتِي عَلَيْهَا انْطَبَعَ . فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَلِيمِ الْفُؤَادِ , مِنْ شُعَبِ الْبِدَعِ وَالْعِنَادِ , أَنْ يَصْرِمَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْإِلْحَادِ , مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَرْدَادٍ . فَهِجْرَانُ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَاجِبٌ . عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ وَيَدْفَعُ إضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ (عَلَى) كُلِّ مُسْلِمٍ مُمْتَثِلٍ لِلسُّنَّةِ وَلِلْبِدْعَةِ مُجَانِبٍ (غَيْرَ مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مُسْلِمٍ (يَقْوَى) لِنُفُوذِ كَلِمَتِهِ أَوْ عُلُوِّ هِمَّتِهِ أَوْ كَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ (عَلَى دَحْضِ) أَيْ دَفْعِ وَرَدِّ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِ , أَيْ قَوْلِ مَنْ يَدْعُو لِلضَّلَالَةِ وَالْبِدَعِ وَالْجَهَالَةِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْ فُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ بِهِ وَالتَّأَذِّي دُونَ غَيْرِهِ . فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ هَجْرُهُ بَلْ عَلَيْهِ رَدُّ قَوْلِهِ كَمَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ فَيَرُدُّهُ (وَيَدْفَعُ) بِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ شُبْهَتَهُ إنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ أَوْ بِسَيْفِ الشَّرْعِ (إضْرَارَ الْمُضِلِّ) لِلنَّاسِ الدَّاعِيَ لَهُمْ لِلْهَلَكَةِ وَالْيَأْسِ (بِمِذْوَدِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْمِذْوَدُ كَمِنْبَرِ اللِّسَانِ . وَأَصْلُ الذَّوْدِ السَّوْقُ وَالطَّرْدُ وَالدَّفْعُ كَالذِّيَادِ وَهُوَ ذَائِدٌ . وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَقِيلَ يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه , وَقَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ قَالَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلَاحًا وَقَالَ أَيْضًا يَعْنِي ابْنَ عَقِيلٍ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ , فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ , وَلَا ضَجِيجِهِمْ بِ (لَبَّيْكَ) , وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ . عَاشَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمُرِّيُّ - عَلَيْهِمَا مَا يَسْتَحِقَّانِ - يَنْظِمَانِ وَيَنْثُرَانِ هَذَا يَقُولُ حَدِيثُ خُرَافَةٍ . وَالْمَعَرِّيُّ يَقُولُ: تَلَوْا بَاطِلًا , وَجَلَوْا صَارِمًا: وَقَالُوا صَدَقْنَا , فَقُلْنَا: نَعَمْ يَعْنِي بِالْبَاطِلِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَعُظِّمَتْ قُبُورُهُمْ وَاشْتُرِيَتْ تَصَانِيفُهُمْ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ , وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْ فُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ فِيمَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الْخِلَافُ , كَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ , وَنَفْيِ الْقَدَرِ , وَنَفْيِ رُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْجَنَّةِ وَالْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ , وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ , وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْأَبَاضِيَّةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْوَاقِفِيَّةُ , وَاللَّفْظِيَّةُ , وَالرَّافِضَةُ , وَالْخَوَارِجُ , وَأَمْثَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ فِسْقٍ . قَالَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ . قَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَقَ الثَّقَفِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ رَافِضِيٌّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ , قَالَ لَا وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَجِبُ عَلَى الْخَامِلِ وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ , وَلَا يَلْزَمُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي إتْيَانِهِ وَلَا هَجْرَ مَعَ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوَّدِ (وَيَقْضِي) أَيْ يُنَفِّذُ (أُمُورَ) جَمْعُ أَمْرٍ وَالْمُرَادُ بِهِ حَوَادِثُ وشئون وَمَصَالِحُ (النَّاسِ) الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ أَنْفُسِهِمْ (فِي إتْيَانِهِ) أَيْ إتْيَانُ هَذَا الْمُخَالِطِ لِهَؤُلَاءِ وَغِشْيَانُهُ لِأَبْوَابِهِمْ وَجُلُوسُهُ فِي أَنْدِيَتِهِمْ , فَهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَجْرُهُمْ: فَتَخَلَّصَ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِ النَّاظِمِ وَالْأَصْحَابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ وَالتَّأَذِّي وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَجْرُ , وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْهَجْرُ , لِأَنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَيُنَاظِرُهُمْ يَحْتَاجُ إلَى مُشَافَهَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ , وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ , وَالْمُتَظَاهِرِ بِالْمَعَاصِي , وَتَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ , وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ . (وَلَا) يَتَأَتَّى (هَجْرٌ) وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ شَخْصٍ (مَعَ تَسْلِيمِهِ) أَيْ تَسْلِيمِ الْهَاجِرِ عَلَى الْمُبْتَدِعِ (الْمُتَعَوِّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِمَ كَلَامَهُ وَيَتْرُكَ سَلَامَهُ فَلَا يَبْدَأُهُ بِالسَّلَامِ , وَإِنْ بَدَأَهُ الْمُبْتَدِعُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ وَلَا احْتِشَامَ , فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أَوْلَى , وَامْتِثَالَ الشَّرِيعَةِ أَحَقُّ وَأَعْلَى . فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَاجِرًا , وَلَا عَنْ مَوَدَّتِهِ وَصُحْبَتِهِ نَافِرًا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: إذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ يُحِبُّهُ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " . (تَتِمَّةٌ) قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا يُوجِبُ الْهِجْرَةَ , نَصَّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ " وَالْقَرَفُ التُّهْمَةُ , يُقَالُ قرفته بِكَذَا إذَا أضفته إلَيْهِ وعبته وَاتَّهَمْتُهُ , وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مُعَاذُ بن جَبَلٍ: إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ , وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ: إنَّ الْوُشَاةَ كَثِيرٌ إنْ أَطَعْتَهُمُو لَا يَرْقُبُونَ بِنَا إلًّا وَلَا ذِمَمَا الْإِلُّ اُخْتُلِفَ فِيهِ , وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ الْقَرَابَةُ . وَقِيلَ أَيْضًا: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحِثَ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتهمْ بِرَسُولٍ أَيْ بِرِسَالَةٍ . وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لِعَمِّ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمِّ غَيْرِهِمْ لَقَدْ كَلَّفُونِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا وَلَا يَلْبَث الْوَاشُونَ أَنْ يَصْدَعُوا الْعَصَا إذَا هِيَ لَمْ يُصْلَبْ عَلَى الْمَرْءِ عُودُهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: يَا مُلْزِمِي بِذُنُوبٍ مَا أَحَطْتُ بِهَا عِلْمًا وَلَا خَطَرَتْ يَوْمًا عَلَى فِكْرِي صَدَّقْتَ فِيَّ أَبَاطِيلَ الظُّنُونِ وَكَمْ كَذَّبْت فِيك يَقِينَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ . ولما ذكر الناظم رحمه الله من يندب ويجب أعقب ذلك بذكر من لا يجوز هجره من المسلمين فقال: وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثة على غير من قلنا بهجر فأكد (وحظر) أي منع , وهو منصوب على المفعولية بأكد . والمراد بالحظر هنا الحرمة خلافا لظاهر كلام الإمام ابن عقيل . قال في الآداب الكبرى: فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقال ابن عقيل يكره . وكلام الأصحاب خلافه ولهذا قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: اقتصاره في الهجر على الكراهة ليس بجيد بل من الكبائر , على نص الإمام أحمد إذ الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة . وقد صح قوله عليه الصلاة والسلام فيمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار . (انتفا التسليم) إذا لقيه فيعرض عنه جانبا ولا يكون لأخوة الإسلام مراقبا ولا لخطة الشيطان مجانبا (فوق ثلاثة) من الأيام أي أزيد منها لما ذكرنا من الحديث . فظاهر كلام الناظم عدم الحظر في الثلاثة فما دون . وظاهر كلام الأكثر هنا لا فرق بين ثلاثة أيام فأكثر . وكلامهم في النشوز يدل على هذا . وذلك لظاهر ما في الصحيحين من أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث , ولا تحسسوا , ولا تجسسوا , ولا تحاسدوا , ولا تباغضوا , ولا تدابروا , وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله عز وجل . المسلم أخو المسلم , لا يظلمه , ولا يخذله , ولا يحقره . التقوى ها هنا , ويشير إلى صدره ثلاث مرات . بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم , كل المسلم على المسلم حرام: دمه , وماله , وعرضه , وفيهما " ولا تنافسوا , ولا تهاجروا , ولا تقاطعوا . إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " . فقوله . ولا تهاجروا " نهي عن الهجرة وقطع الكلام , وفي رواية " ولا تهجروا " وهو بمعنى الأولى . وقيل يجوز أن يكون معنى ولا تهجروا أي لا تتكلموا بالهجر بضم الهاء وهو الكلام القبيح . وفي رواية للبخاري وأبي داود وغيرهما " ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " . ورواه الطبراني وزاد فيه " يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة " . وأخرج الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " . وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " . وفي رواية لأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث , فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه , فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر , وإن لم يرد فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة " . وفي حديث عائشة عند أبي داود " فإذا لقيه يسلم عليه ثلاث مرات كل ذلك لا يرد عليه فقد باء بإثمه " . وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث ليال , فإنهما ناكبان أي مائلان عن الحق , ما داما على صرامهما , وأولهما فيئا يكون سبقه بالفيء كفارة له , وإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان , فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا " . وروى الطبراني بسند صحيح عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار إلا أن يتداركه الله برحمته " . وأخرج مالك ومسلم واللفظ له وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا " وفي رواية أنه يكرر ذلك ثلاثا يعني قوله اتركوا هذين حتى يصطلحا . الشحناء العداوة كأنه شحن قلبه بغضا أي ملأه . وكلامه في المستوعب وغيره على أنه لا يحرم في الثلاثة أيام للأخبار التي ذكرناها . وفي شرح مسلم قال العلماء رضي الله عنهم: وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك , فعفي عنها في الثلاث ليزول ذلك العارض . وقيل إن الأخبار لا تدل على الهجر في الثلاث قال في شرح مسلم على مذهب من لا يحتج بالمفهوم: قال في الآداب: ويتوجه أو لأن الخبر في الهجر بعذر شرعي . انتهى . قلت: وقد ورد من المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يبطل التأويلين . فروى الطبراني ورواته ثقات إلا عبد الله عبد العزيز الليثني فوثقه مالك وسعيد بن منصور وقال البخاري منكر الحديث , وضعفه النسائي وأبو حاتم , وقال أبو زرعة ليس بالقوي , وقال يحيى ليس بشيء فهو مختلف فيه كما ترى , عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تدابروا , ولا تقاطعوا , وكونوا عباد الله إخوانا , هجر المؤمنين ثلاثا فإن تكلما وإلا أعرض الله عز وجل عنهما حتى يتكلما " فإن هذا الحديث يبطل تأويل من لم يحتج بالمفهوم جزما , وهي اتجاه صاحب الآداب لأن الأصل عدم العذر إلا أن يقوم عليه دليل والله الموفق . وإنما يحرم الهجر وانتفاء التسليم فوق ثلاثة أيام (على غير من) أي مسلم قلنا (ب) جواز (هجر) ه لارتكابه المعاصي وتجاهره بها , فإنها تجره بالنواصي إلى جهنم ولهبها . أو قلنا بوجوب هجره لارتكابه البدع المكفرة أو المفسقة أو كونه داعيا إلى بدعة مضلة أو مفسقة كما بيناه سابقا . وقول الناظم (فأكد) فعل أمر من التأكيد , أي أكد حظر انتفاء التسليم فوق ثلاثة أيام بلياليها على غير من قلنا بجواز هجره أو وجوبه .
(تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ) ظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ يَزُولُ بِالسَّلَامِ وَذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ وَالرِّعَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ: وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ . وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " السَّلَامُ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ " وَذَكَر النَّوَوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا يَزُولُ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِالسَّلَامِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيُّ: إنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ يَقْطَعْ السَّلَامُ هِجْرَانَهُ . قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ السَّلَامِ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ؟ فَقَالَ قَدْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَقَدْ صَدَرَ عَنْهُ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا " فَإِذَا كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَأَنْ يُصَافِحَهُ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَانٍ فِي شَيْءٍ يَخَافُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْكُفْرُ فَهُوَ جَائِزٌ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِمْ " لَا تُكَلِّمُوهُمْ " فَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ بَلْ بِعَوْدِهِ إلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ . قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ حَتَّى يَعُودَ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ , لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِعَوْدَتِهِ مَعَهُ . انْتَهَى . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِلَّذِي تَشْتُمُهُ ابْنَةُ عَمِّهِ: إذَا لَقِيتَهَا سَلِّمْ عَلَيْهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ . فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّلَامَ يَقْطَعُهَا مُطْلَقًا . وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَمْدَانَ وَالسَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا , وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (الثَّانِي) ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ لَا يَزُولُ بِغَيْرِ مُشَافَهَةٍ , وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامًا أَنْ يَزُولَ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِهَا . قَالَ ثُمَّ وَجَدْت ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَهُ . وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا يَزُولُ لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ . انْتَهَى . وَظَاهِرُ كَلَامِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَزُولُ . قَالَ ابْنُ رَزِينٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ فَكَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ , نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ , فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي هِجْرَانَهُ وَتَرْكَ صِلَتِهِ حَنِثَ . انْتَهَى . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامٌ , وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِكُلِّ خَيْرٍ . . وَلَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ عَلَى أَحْكَامِ الْهَجْرِ وَالِانْصِرَامِ أَعْقَبَ ذَلِكَ فِي النِّظَامِ بِذِكْرِ السَّلَامِ فَقَالَ:
وَأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُنْ عَالِمًا أَنَّ السَّلَامَ لِسُنَّةٍ وَرَدُّك فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبًا بِأَوْطَدِ (وَكُنْ) أَيُّهَا المتشرع , الَّذِي لِعِلْمِ الْآدَابِ مُتَشَوِّقٌ وَمُتَطَلِّعٌ . (عَالِمًا) عِلْمَ إخْلَاصٍ وَتَحْقِيقٍ , وَامْتِثَالٍ وَتَدْقِيقٍ , (أَنَّ السَّلَامَ) أَيْ ابْتِدَاءَهُ . وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَمَعْنَاهُ لُغَةً الْأَمَانُ . قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: السَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى , وَفِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَيْك مُعَرَّفًا وَيَجُوزُ مُنَكَّرًا , وَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْك , أَوْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْك تَسْلِيمًا وَسَلَامًا , وَمَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَلِمَ (لَسُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ صَرَّحَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ , وَصَحَّتْ بِهَا الْآثَارُ , عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ , وَنَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ وَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْوَاحِدِ دَامَ وَثَبُتَ وَرَسَا , والمتواطد الدَّائِمُ الثَّابِتُ الَّذِي بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَنَحْوُهُ فِي النِّهَايَةِ . فَالْأَثْبَتُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ لَا مَنْدُوبٌ . وَعُلِمَ مِنْهُ . أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعًا . وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ وُجُوبُهُ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ رضي الله عنه أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَاجِبٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) صِفَةُ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَيَقُول الرَّادُّ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ , وَإِنْ قَالَ الرَّادُّ: وَعَلَيْك أَوْ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ . وَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ , فَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُ يُجْزِئُ , وَكَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ . قَالَ كَمَا رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَعْرَابِيِّ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَصَحَّ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أُبَيِّيَ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ يَا أُبَيُّ , فَالْتَفَتَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْهُ , ثُمَّ صَلَّى أَيْ تَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ وَعَلَيْكَ , مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُك " الْحَدِيثَ . قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرَّادِّ لِلسَّلَامِ وَعَلَيْك بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ . انْتَهَى . وَكَذَا رَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ , وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ . وَظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَالَ وَيُجْزِئُ فِي الرَّدِّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ , فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى الْإِجْزَاءِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِأَقَلَّ مِنْهَا بِأَنْ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ . وَمُقْتَضَى كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الْإِجْزَاءُ لِأَنَّهُ قَالَ الْمُضْمَرُ كَالْمُظْهَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إذَا وَصَلَهُ بِكَلَامٍ فَلَهُ الِاقْتِصَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ وَلَوْلَا أَنَّ الرَّدَّ الْوَاجِبَ يَحْصُلُ بِهِ لَمَا أَجْزَأَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ . وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَسَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ . قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: فَإِنْ قَالَ سَلَامٌ لَمْ يُجِبْهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ , وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي السَّلَامُ الْأَوَّلُ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ تَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ فِي سَلَامِهِ عَلَى الْحَيِّ , وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ فَمُعَرَّفٌ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ إلَى آخِرِهِ . (الثَّانِي) انْتِهَاءُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا (وَبَرَكَاتُهُ) وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءَ عَلَى الرَّدِّ كَعَكْسِهِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَآخِرُهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ابْتِدَاءً وَرَدًّا وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ تَمَامِ السَّلَامِ فَقَالَ وَبَرَكَاتُهُ . وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إلَى الْبَرَكَةِ . قَالَ الْقَاضِي: وَيُجْزِي أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءُ عَلَى لَفْظِ الرَّدِّ وَالرَّدُّ عَلَى لَفْظِ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّ الِانْتِهَاءَ فِي ذَلِكَ إلَى الْبَرَكَاتِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ مُسَاوَاةَ الرَّدِّ لِلِابْتِدَاءِ أَوْ أَزْيَدَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْبَرَكَاتِ حَيْثُ قَالَ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ فَقَالَ أَرْبَعُونَ - وَتَقَدَّمَ - فَضَعِيفٌ وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ . قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَيَأْتِي بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا , وَيَقُولُ الْمُجِيبُ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ لِمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه , وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ , وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي دَاوُدَ , وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا , وَأَكْمَلُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَا الْجَوَابُ , وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَأَوْسَطُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُجْزِئُ فِي السَّلَامِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) وَلَوْ عَلَى مُنْفَرِدٍ , وَفِي الرَّدِّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَنْوِي مَلَائِكَتَهُ حَيْثُ أَتَى بِمِيمِ الْجَمْعِ . (الثَّالِثُ) أَوْجَبَ فِي الْإِقْنَاعِ زِيَادَةَ الْوَاوِ فِي الرَّدِّ بِأَنْ يَقُولَ وَعَلَيْك أَوْ وَعَلَيْكُمْ فَإِنْ أَسْقَطَهَا فَقَالَ فِي الْهَدْيِ فَهَلْ يَكُونُ رَدًّا صَحِيحًا؟ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْمُتَوَلِّي لَا يَكُونُ جَوَابًا وَلَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الرَّدِّ , وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ . انْتَهَى . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتُزَادُ الْوَاوُ فِي رَدِّ السَّلَامِ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ يَعْنِي عَدَمَ وُجُوبِ زِيَادَتِهَا . قُلْت وَهُوَ الْمَذْهَبُ , جَزَمَ بِهِ م ص فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى كَالْمُصَنِّفِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَتْنِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ آدَمَ عليه السلام قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ عليهم السلام: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ , فَقَالُوا لَهُ عَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ وَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ , وَأَمَّا النَّصْبُ فِي الْأَوَّلِ فَقِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ ذَكَرُوا سَلَامًا وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ سَلَّمُوا سَلَامًا , وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ كَذِبٌ وَفِيهِ أَنَّهُ إنْشَاءٌ كَقَوْلِك صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ بَلْ الْأَوْلَى أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ كَمَا فِي الْآدَابِ .
(الرَّابِعُ) يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى جَمَاعَةٍ , مِنْهُمْ الْمُتَوَضِّئُ , وَمَنْ فِي الْحَمَّامِ , وَمَنْ يَأْكُلُ , أَوْ يُقَاتِلُ , وَعَلَى تَالٍ , وَذَاكِرٍ , وَمُلَبٍّ , وَمُحَدِّثٍ , وَخَطِيبٍ , وَوَاعِظٍ , وَعَلَى مُسْتَمِعٍ لَهُمْ وَمُكَرِّرِ فِقْهٍ , وَمُدَرِّسٍ , وَبَاحِثٍ فِي عِلْمٍ , وَمُؤَذِّنٍ وَمُقِيمٍ , وَمَنْ عَلَى حَاجَتِهِ , وَمُتَمَتِّعٍ بِأَهْلِهِ , أَوْ مُشْتَغِلٍ بِالْقَضَاءِ , وَنَحْوِهِمْ . فَمَنْ سَلَّمَ فِي حَالَةٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا . وَقَدْ نَظَّمَهُمْ الخلوتي وَزَادَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَقَالَ: رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ إلَّا عَلَى مَنْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بِأَكْلٍ شُغِلَا أَوْ شُرْبٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَدْعِيَهْ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ فِي خُطْبَةٍ أَوْ تَلْبِيَهْ أَوْ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ فِي إقَامَةٍ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ سَلَّمَ الطِّفْلُ أَوْ السَّكْرَانُ أَوْ شَابَّةٌ يُخْشَى بِهَا افْتِتَانُ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ نَاعِسٌ أَوْ نَائِمٌ أَوْ حَالَةَ الْجِمَاعِ أَوْ تَحَاكُمٌ أَوْ كَانَ فِي الْحَمَّامِ أَوْ مَجْنُونَا فَهِيَ اثْنَتَانِ قَبْلَهَا عِشْرُونَا وَرَدَ النَّصُّ فِي بَعْضِ هَذِهِ وَالْبَقِيَّةُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ . وَإِذَا انْتَفَى الْوُجُوبُ بَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ أَوْ الْإِبَاحَةُ , نَعَمْ فِي مَوَاضِعَ يُكْرَهُ الرَّدُّ أَيْضًا كَاَلَّذِي عَلَى حَاجَتِهِ , وَلَعَلَّ مِثْلَهُ مَنْ مَعَ أَهْلِهِ . وَيَحْرُمُ أَنْ يَرُدَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَفْظًا وَتَبْطُلُ بِهِ , وَيُكْرَهُ إشَارَةٌ قَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ لَا كَرَاهَةَ لِلْعُمُومِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى ابْنِ عُمَرَ إشَارَةً , وَعَلَى صُهَيْبٍ , كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ , وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ السَّلَامِ فَحَسَنٌ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَإِنْ لَقِيَ طَائِفَةً فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ , وَكُرِهَ السَّلَامُ عَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ عَجُوزٍ وَبَرْزَةٍ فَإِنْ سَلَّمَتْ شَابَّةٌ عَلَى رَجُلٍ رَدَّهُ عَلَيْهَا , وَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَرْأَةُ لَا تُسَلِّمُ عَلَى الرِّجَالِ أَصْلًا , وَرُوِيَ مِنْ الْحِلْيَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ يَرْفَعُهُ " لَيْسَ لِلنِّسَاءِ سَلَامٌ وَلَا عَلَيْهِنَّ سَلَامٌ " وَكَرِهَ الْإِمَامِ السَّلَامَ عَلَى الشَّوَابِّ دُونَ الْكَبِيرَةِ , وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي وَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ . (الْخَامِسُ) سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ , فَقَالَ يُسْرِعُ فِي خُطَاهُ لَا تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةُ مَعَ الْقَوْمِ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ جَعَلُوهُ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ . وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ , وَحَكَاهُ الْمَجْدُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ نَعَمْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ سَائِلٍ عَلَى بَابِ دَارِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِشِعَارِ سُؤَالِهِ لَا لِلتَّحِيَّةِ , قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُجْزِي رَدُّ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ , فَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمُنْقَطِعُ فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُهُ عَنْ سَلَامٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ . ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ , وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ خِلَافُهُ . وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ , وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ , وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ . قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَرَدُّ السَّلَامِ سَلَامٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِلَفْظِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ فَلَا تَجِبُ زِيَادَةٌ كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ يَعْنِي وُجُوبَ الرَّدِّ بِرَدِّ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْأَذَانُ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ بِأَذَانِ بَلْدَةٍ أُخْرَى . وَأَمَّا لَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَلَاقِيَيْنِ لِصَاحِبِهِ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ ابْتِدَاءً لَا جَوَابًا فَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْجَوَابَ لِأَنَّهَا صِيغَةُ جَوَابٍ لَا ابْتِدَاءً , وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
(السَّادِسُ) يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ , وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ . وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ , وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِلِ , وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يُسْتَحَبُّ , وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعًا . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَأَمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ أَيْ الْجَمِيلُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ , وَفِيهِ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ . وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصِّبْيَانِ كَمَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ , كَقَوْلِ أَنَسٍ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ صِبْيَانٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا . وَمَرَّ أَنَسٌ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِّ , وَضَمُّهَا لُغَةٌ .
(تَتِمَّةٌ). لَا يَجُوزُ بُدَاءَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا , لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا , فَإِنَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمْ وَجَبَ الرَّدُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ خِلَافًا لِمَالِكٍ , وَصِفَةُ الرَّدِّ (وَعَلَيْك) أَوْ (وَعَلَيْكُمْ) بِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِهَا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَاخْتَارَ الْأَصْحَابُ إثْبَاتَ الْوَاوِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي مُوسَى مِنَّا وَابْنِ حُسَيْنٍ الْمَالِكِيِّ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ بِالْحَذْفِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَوَاهُ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ بِالْوَاوِ , وَقِيلَ: الْوَاوُ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ , وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمِّ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ السَّامُّ عَلَيْكُمْ يَعْنِي الْمَوْتَ أَوْ السَّلَامُ عَلَيْك , وَهِيَ الْحِجَارَةُ , فَيُقَالُ: وَعَلَيْك , وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ , وَلَمْ يَعْلَمْهُ قَالَ لَهُ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
|